فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (26):

{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية.
وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية. و{يَسْتَحْيِي} أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحي، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن {يستحي} بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى: {يَسْتَحْيِي} في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي.
وقال غيره: لا يترك.
وقيل: لا يمتنع. واصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى.
وفي صحيح مسلم: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما}... {يَضْرِبَ} معناه يبين، و{أن} مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. {مَثَلًا} منصوب ب يَضْرِبَ... {بَعُوضَةً} في نصبها أربعة أوجه:
الأول- تكون {ما} زائدة، وب {عُوضَةً} بدلا من {مَثَلًا}.
الثاني- تكون {ما} نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: {مَثَلًا}. و{بَعُوضَةً} نعت لما، فوصفت {ما} بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب.
الثالث- نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت بين وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ** ولا حبال محب واصل تصل

أراد ما بين قرن، فلما أسقط بين نصب.
الرابع- أن يكون {يَضْرِبَ} بمعنى يجعل، فتكون {بَعُوضَةً} المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج {بَعُوضَةً} بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن {ما} اسم بمنزلة الذي، و{بَعُوضَةً} رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: {تماما على الذي أحسن} أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في ما أقبح منه في الذي، لان الذي إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قاله الجوهري وغيره.
قوله تعالى: {فَما فَوْقَها} قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل {ما} الأولى صلة زائدة ف- ما الثانية عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى: {فَما فَوْقَها}- والله أعلم- ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى.
وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر. والضمير في أَنَّهُ عائد على المثل أي أن المثل حق.
والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة بفتح الحاء أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} لغة بني تميم وبني عامر في: {أما} أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} اختلف النحويون في: {ماذا}، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بـ {أَرادَ}. قال ابن كيسان: وهو الجيد.
وقيل: ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و{مَثَلًا} منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب.
وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.
قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى.
وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويخذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم. ولا خلاف أن قوله: {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} أنه من قول الله تعالى. و{الْفاسِقِينَ} نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لان الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام.
وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير أعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لامحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا». روته عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه مسلم.
وفي رواية: «العقرب» مكان: «الحية». فأطلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها اسم الفسق لاذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا- عن الأخفش- فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الزاهر له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يذهبن في نجد وغورا غائرا ** فواسقا عن قصدها جوائرا

والفسيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.

.تفسير الآية رقم (27):

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ} الذين في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتدا محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ} النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره.
وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به.
وقيل: بل نصب الادلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك.
وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده عز وجل ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ودليل ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي عهدي.
قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل، لأن أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها- والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الاعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ** ولا نسأل الأقوام عهد المياثق

والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: {وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ}.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ} القطع معروف، والمصدر- في الرحم- القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قطوعا وقطاعا وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار.
الخامسة: قوله تعالى: {ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} {ما} في موضع نصب بـ {يقطعون}. و{أن} إن شئت كانت بدلا من {ما} وإن شئت من الهاء في: {به} وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام.
وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا.
وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم.
وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الافعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
{أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} ابتداء وخبر. و{هُمُ} زائدة، ويجوز أن تكون {هُمُ} ابتداء ثان، {الْخاسِرُونَ} خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه ** أولاد قوم خلقوا أقنه

يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء بالفتح وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه واهلة يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.
السابعة: في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عليه السلام: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} [الأنفال: 85]فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (28):

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
... {كَيْفَ} سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب ب- {تَكْفُرُونَ}، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد.
وقيل: {كَيْفَ} لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه! قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شي، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً} هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد.
وقال الفراء: {أَمْواتاً} خبر {كُنْتُمْ}... {فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم- أي خلقكم- ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للاحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الأحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا.
وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا.
وقيل: كنتم أمواتا في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم.
وقيل: كنتم أمواتا- أي نطفا- في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجئ أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم.
قلت: فقوله: {فأماتهم الله} حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم.
وقيل: يجوز أن يكون {أماتهم} عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل: المعنى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالخمول فَأَحْياكُمْ بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فيموت ذكركم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم.
وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و{تُرْجَعُونَ} قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.